يعتقد الكثيرون أن مرضى الصرع هم مجانين، و كان الاعتقاد السائد لدى الناس في القدم بأن النوبة تنشأ عن الجن و مس الأرواح الشريرة .. لكن الحقيقة هي أن المرض ناتج عن شحنات كهربائية غير طبيعية تصدر في بعض خلايا المخ المصابة، و التي تسمى البؤرة الصرعية، و يظهر نشاط البؤرة في صورة أعراض غير طبيعية هي التشجنات، و لذلك قد يسمى الصرع أحيانا "بالاضطراب التشنجي".
و لا يزال الصرع واحدا من الأمراض التي استغلقت على عقول البشر، و حيرت و تحير الأطباء حتى هذه اللحظة، ففي نحو 70% من حالات الإصابة، و التي تبلغ على مستوى العالم ما يقرب من 50 مليون مريض بالصرع، 90% منهم في الدول النامية، لا يعرف الأطباء سببا لزيادة النشاط الكهربائي في المخ عن معدله الطبيعي. و غالبًا ما يصيب الصرع الأطفال، أو كبار السن فوق الخامسة و الستين، لكن هذا لا يعني أنه مقصور علي هذه الفئات، فأي شخص في أي مرحلة عمرية معرض للإصابة بالصرع.
و بسبب الفهم الخاطئ لحالة الصرع و الأسباب المؤدية له يعاني الأشخاص المصابون بالصرع من العزلة الاجتماعية. فالمجتمع ينظر إلى مرضى القلب و الربو و الأمراض المزمنة الآخرى بالرأفة و العطف و الاستعداد للمساعدة، و لكنه ينظر للمصابين بالصرع بالريبة و الشك و الخوف فيتجنبهم و يجعلهم في عزلة عنه.
و نتيجة لذلك يضطر المصاب بالصرع أو أقاربه الابقاء على حالته سرًا و في طي الكتمان قدر الامكان؛ تجنبا لتلك النظرة الاجتماعية الخاطئة. هذا بالاضافة إلى انتشار الفكرة الخاطئة عن الصرع بأنه شديد الأثر على المصاب و أنه قد يؤدي للوفاة, إلا أن واقع الأمر أن الصرع مثله مثل باقي الأمراض الجسدية الأخرى فمنه الخفيف و المتوسط و القليل منه الشديد. و مع تطور الطب بدأ العلماء التعرف على جوانب كانت مجهولة في وظائف المخ و كيفية حدوث الصرع و ما زالت هناك جوانب أخرى يجهلها الانسان.
إن الصرع بحد ذاته لا يؤدي للوفاة، لكن قد يفعل إذا تكررت أو استمرت التشنجات الصرعية لأكثر من ثلاثين دقيقة، ما لم يتم إسعاف المصاب بالعلاج المناسب، إلا أن مثل هذه الوفيات نادرة الحدوث. أما حالات الوفاة الأكثر حدوثا فهي تلك الناجمة عن الأخطار أو الحوادث التي تتم عندما تحدث النوبة لشخص في وقت غير متوقع فيه حدوثها وفي وضع شديد الخطورة.
و رغم التقدم الكبير في علوم الطب، فإن الصرع ما زال من الأمراض التي ليس لها علاج ناجع، بل إن كل أدوية علاج الصرع هي لتخفيف حدة النوبات، و ليس لإخماد البؤرة الصرعية، و التي قد يضطر الطبيب – في الحالات المستعصية – للتدخل جراحيًا لإزالتها. و رغم هذا، فإن هذه الأدوية المهدئة و التي تصنف كأدوية "سيطرة" على الأعراض، تحقق نجاحًا كبيرًا، و ربما تصل بالمريض إلى مستوى يقترب من الشفاء الكامل.
اشتقت كلمة الصرع من مادة "ص ر ع"، و حسب القاموس المحيط فإن الصَّرْعُ، ويكسرُ، هو الطَّرْحُ على الأرْضِ، و لأن أعراض الصرع العام الذي كانت تعرفه العرب تشتمل علي الطرح أرضًا من شدة التشنجات، فقد اشتق اسم الداء منها.
" الصَّرْع (مصدرٌ)، و عند الأطَّباء علةٌ تمنع الأعضاء النفسانيَّة عن أفعالها منعًا غير تامٍ و سببها سدَّةٌ غير تامَّةٍ، بخلاف السكتة، تعرض في البطن المقدَّم من بطون الدماغ واقفة في مجاري الأعصاب المحرّكة للأعضاء فتمنع الروح النفسانيَّ من السلوك فيها سلوكًا طبيعيا فتتشنجَّ الأعضاء و تحدث فيها رعدةٌ و حركاتٌ مختلفة. و قد تُسمىَّ هذه العلَّة امَّ الصّبيان لكثرة عروضها لهم. و قد يقال لها المرض الكاهنيُّ. قال الطَبَريُّ وأبو الفَرَج لأن من المصروعين من يتكَّهن ويرجم بالغيب. فإن كان سدَّة الدماغ تامَّة فتلك السكتة. "
و رغم الدقة النوعية في هذا التعريف، فقد أخبر على الأقل بإنه ينتج عن خلل في الأعصاب أو "انسداد في مجاريها"، نجد أن معجم منن اللغة يعرف الصرع بأنه داء يشبه الجنون ، و يقال: صُرع بمعنى جُنّ فهو صريع و الصريع هو المصروع أو المجنون، و هذا بسبب الاعتقاد في مس الجن و الشياطين و الأرواح الشريرة. الاعتقاد نفسه جعل الكلمة في الإنجليزية تشتق من كلمة إغريقية تعني "تعرض لهجوم" Epilepsy.
و ربما كانت تسمية الصرع بهذا الاسم أحد الأسباب التي جعلت منه كابوسًا على المرضى، فوقع الاسم، و اشتقاقاته اللغوية كلها تعني الإذلال أو الوقوع أو فقدان السيطرة، و من هنا ينادي بعض الأطباء بتغيير هذا الاسم لاسم آخر، يعبر عن الحالة و في الوقت ذاته لا يجرح مشاعر المرضى أو يستثير مخاوف من حولهم، و لعل أحد هذه المحاولات ما نعرفه جميعًَا من إجابة الطبيب بأن المريض "مصاب بزيادة في كهرباء المخ" بدلاً من إن يقول إنه مصاب بالصرع.
الصرع مرض قديم معروف عبر التاريخ، و بسبب الأعراض السريرية المختلفة "غير العادية" العنيفة و المخيفة في بعض الأحيان، أعطى القدماء للصرع تعليلات عديدة " فوق طبيعية " تثير الخوف من هذا الداء و النفور من المصابين به.
فمن جهة ذهب اليونانيون لاعتباره من صنع قوى حارقة إلهية، و أطلقوا عليه اسم المرض المقدس أو الإلهي. فكان مريض الصرع يعالج معالجة خاصة، إذ يؤخذ للمعبد فيغسل و يدهن بالعطور و الزيوت و يؤمر بالصيام، و أداء طقوس خاصة و تقديم القرابين للآلهة الناقمة لكي تصفح عنه (كما كان يتم في معبد اسكوليبوس). و بنفس المنحنى اعتقد اليهود أن عدداً من الأمراض، و من ضمنها الصرع و الجنون، ما هي إلا عقاب للمذنبين، و بالتالي كان على المريض أن يكفر عن آثامه و يطلب التوبة سعيًا للشفاء.
من جهة أخرى اعتقد آخرون أن المسبب للصرع هي قوى شريرة تسيطر على المريض و تلغي إرادته، و بالتالي يتمثل العلاج في مساعدته على التخلص من هذه القوى و طردها من داخله. فهنود قبائل الأنكا مثلاً كانوا يقومون بإحداث ثقوب في جمجمة المريض بهدف إخراج الشياطين و الأرواح الشريرة منها.
لكن لابد أن نذكر أن عدداً من الأطباء القدماء، بدءًا من أبوقراط و وصولاً لأعلام الطب الإسلامي، كابن سينا و الرازي قابلوا هذه التفسيرات غير الطبيعية للصرع بتفسيرات علمية من حيث المبدأ، أي على أنها حالات تنجم عن اضطراب دماغ الإنسان و عقله، و بالتالي توجهوا في علاجهم نحو "تهدئة الدماغ و تطمين العقل" بل و "زرع الثقة في نفس المريض" !. و لكن حتى هؤلاء بقوا يضعون الصرع في نفس مجموعة الأمراض العقلية المعروفة بالجنون، مثلهم في ذلك مثل بقية الأطباء في ذلك الوقت، و لذلك بقي الجنون أحد المعاني المتداولة للصرع، كما أسلفنا سابقًا.
طبيبان يقومان بعلاج مريض بالصرع (القرن الثاني عشر) – كان العلاج المعروف في ذلك الحين هو الكي أو التربنة (فتح الجمجمة)، و هما العلاجان اللذان يتلقاهما المريض في هذه الصورة
و كان يعاني من داء الصرع الملوك والنبلاء حتى أطلقوا عليه قديما "مرض العظماء"، فالقائد الشهير الإسكندر الأكبر واحد من أشهر المصابين بالصرع عبر التاريخ. و يوليوس قيصر، أحد أكثر الرجال نفوذًا في التاريخ، كان أيضا من المصابين بمرض الصرع، و كذلك القائد القرطاجي الشهير هانيبال. الملك ألفريد الأكبر الذي مهد للوحدة الإنجليزية، و الذي تصدى لهجمات قبائل "الفايكينج" المتتابعة على شمال أوروبا، كان أيضًا مصابًا بالصرع، و رغم ذلك لم ينقذ بريطانيا من الإبادة سوى عبقريته؛ و القائمة تطول.
و قد ورد ذكر الصرع في النصوص الإغريقية القديمة و في الإنجيل. و لم تكن هناك دراسات جادة إلا في أواسط التاسع عشر، إذ كان السير تشارلز لوكوك أول من أوجد المسكنات التي ساعدت على التحكم بالنوبات في عام 1857م. و في عام 1870م قام جون جاكسون بتحديد الطبقة الخارجية للمخ، أي القشرة المخية، و عرّفها بأنها ذلك الجزء المعني بالصرع. و أوضح هانز برجز في عام 1929م بأن هناك إمكانية لتسجيل نبضات المخ البشري الكهربائية، فيما يعرف برسم المخ الكهربي EEG.
و في وقتنا الحاضر، نجد أن الأبحاث الطبية قد تقدمت فيما يتعلق بتشخيص و علاج مرض الصرع تقدمًا ملحوظًا، حيث تم تسجيل نوبات الصرع و النوبات الأخرى على أشرطة الفيديو، و ذلك باستخدام الدوائر التلفزيونية المغلقة، و تسجيل تخطيط المخ الكهربائي عن طريق الأجهزة، مما أدى إلى تفهم الأنواع المختلفة من النوبات تفهماً عميقاً.
تشريح المخ
حتى يتسنى لنا فهم حقيقة الصرع، و الوقوف على أرض ثابتة بشأنه، ينبغي علينا أن نعرف أولاً تشريح الجهاز العصبي، و المخ تحديدًا، بصورة مبسطة، لأن الصرع كما قلنا هو اضطراب في كهرباء المخ، كما أن تحديد المكان الذي يحصل منه تفريغ كهربائي من المخ له أهمية تشخيصية في مرض الصرع.
و هذه محاولة بسيطة و متواضعة للتعرف على شرح تركيب المخ البشري، و ما تحتويه الجمجمة البشرية من أعظم جهاز يقع عليه عبء التحكم و السيطرة على جميع وظائف الجسم المختلفة، سواء كانت هذه الوظائف حركية أو حسية، أو فكرية إبداعية.
بداية نتحدث عن الجهاز العصبي بشكل عام، و الذي هو جزء منه المخ. ينقسم الجهاز العصبي إلى قسمين رئيسين :
الجهاز العصبي المركزي Central Nervous System CNS.
الجهاز العصبي الطرفي Peripheral Nervous System
يسسسلمو بدر
هذه الصورة بحجم اخر انقر هنا لعرض الصورة بالشكل الصحيح ابعاد الصورة هي 660×370.مشكور بدرنا ..