ثاني أجمل ضريح في العالم

يذكر المقريزي في خططه أن مجموعة من القاعات قد احتلت مكان قاعة من قاعات القصر الغربي الصغير، التي عرفت باسم قاعة (ست المُلك) ابنة الخليفة العزيز بالله بن المعز لدين الله. واختلفت التسمية في العصور اللاحقة، وتداولها الورثة والمشترون إلى أن وصلت إلى (مؤنسة خاتون) بنت الملك العادل الأيوبي، فاشتراها منها السلطان قلاوون عام 682هـ/1283م.

وكما يذكر "علي باشا مبارك" في الخطط التوفيقية أن مجموعة قلاوون قد تم بناؤها في أحد عشر شهرًا على يد "سنجر الشجاعي".

أما السلطان "قلاوون" فهو السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي، أحد مماليك الأتراك البحرية، اشتراه الأمير "علاء الدين آق سنقر" الساقي العادلي بألف دينار، ثم امتلكه الصالح نجم الدين عام 647هـ/1249م فجعله من جملة المماليك بالبحرية، ثم ترقى في الوظائف إلى أن عُيِّن "أتابك العسكر"، ثم تولى سلطنة مصر عام 678هـ/1279م، واستمر سلطانًا عليها حتى وفاته ليلة السبت السادس من شهر ذي القعدة عام 689هـ/1290م؛ حيث دفن بقبته بشارع بين القصرين شارع المعز، بقلب مدينة القاهرة عاصمة مصر.

ومجموعة "قلاوون" هي واحدة من أروع المجموعات المعمارية التي تم بناؤها في ذلك العصر، وتتكون من المدرسة والبيمارستان (المستشفى) والقبة، ولعلنا نقصر حديثنا هنا على قبة ضريح السلطان المنصور قلاوون ونرجئ الحديث عن البيمارستان والمدرسة إلى وقت آخر، ويذكر المؤرخون أن المهندس الذي بنى المجموعة استخدم أعمدة الجرانيت والرخام وبعض العناصر الأخرى من قلعة الصالح نجم الدين بالروضة، وأنه بناها على ثلاث مراحل: البيمارستان، ثم القبة (الضريح)، ثم المدرسة، وأنه بعد الانتهاء من بناء المجموعة أوقف عليها السلطان من الأملاك بديار مصر وغيرها ما يقارب ألف ألف درهم في كل عام.

وحدثت تجديدات عديدة على المجموعة في عهد الناصر محمد بن قلاوون؛ حيث جدد المئذنة وأثبت هذا بها، وذلك إثر زلزال حدث عام 703هـ، كما أبطل حوض سقي الدواب واستبدل سبيلا على واجهة المدرسة به عام 726هـ ما زال قائمًا حتى الآن.

كما قام "عبد الرحمن كتخدا" – صاحب السبيل الشهير بشارع المعز – والذي يُعَدُّ كنز العمارة العثمانية بترميم هذه المجموعة والاعتناء بها عام 1175هـ، ويُعَدُّ ضريح السلطان قلاوون ثاني أجمل ضريح في العالم بعد تاج محل بالهند، كما تُعَدُّ قبة السلطان قلاوون من أروع القباب المملوكية، سواء في تخطيطها المتفرد الذي لم يتكرر بعد ذلك، أو في عناصرها المعمارية، والزخرفية أو ما كانت تؤديه من وظائف مختلفة.

وكما أورد "النويري" في (نهاية الأرب) أن قبة "المنصور قلاوون" لم تكن مشيدة للدفن، وإنما لكي تقوم بدور المسجد والمدرسة، وعيَّن لها السلطان درجات الوظائف المختلفة، ولم تستخدم القبة كمدفن إلا بعد وفاة السلطان، فقد وضع جثمانه بالقلعة لمدة شهرين إلى أن أعد له ابنه السلطان "الأشرف خليل" مكان دفنه بالقبة، كما دفن بعد ذلك ابنه السلطان "الناصر محمد" صاحب المجموعة الملاصقة لمجموعة قلاوون، وكذلك حفيده الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد.

وظلت القبة المنصورية تقوم بدورها الديني حتى بعد أن أصبحت مدفن لأبناء قلاوون، ويذكر المقريزي (الخطط ج2 ص381) أن السلطان الأشرف "خليل بن قلاوون" أوقف عليها أربع ضياع في عكا وصور.

كما يذكر أيضًا أن القبة المنصورية مزودة بمتحف لحفظ ملابس من دُفِن بها، وهو ما يُعَدُّ ثالث متحف من نوعه، فقد كان الأول ملحقًا بمسجد سيدي "عقبة بن عامر"، والثاني بقبة الصالح نجم الدين أيوب أقامته زوجته "شجر الدر".

أما واجهة القبة الرئيسية (الجنوبية الشرقية)، وهي المطلة على شارع المعز، فيبلغ امتدادها بما في ذلك المئذنة (35.12م) وارتفاعها (20.25م)، وهي مقسمة إلى ثماني دخلات غير عميقة معقودة بعقود مدببة ترتكز على أكتاف بارزة قليلاً أسفل كل كتف منها عمود رخامي مستدير.

وقد هدم الوالي "عبد الرحمن كتخدا" القبة الأصلية عام 1175هـ/1761م وأعاد بناءها، إلا أن لجنة حفظ الآثار العربية أقامت قبة أخرى بدلاً منها، وذلك عام 1908م وقد أخذت أصولها وشكلها من قبة الأشرف خليل التي كانت معاصرة لها في عام 687هـ/1288م، وتتوسط أرضية القبة تركيبة رخامية من مستويين يعلوها تابوت خشبي عليه كتابات بالخطَّيْن الكوفي والنسخي، إلا أن أجزاء من هذا التابوت قد فقدت، ويشتمل جانبان منه على حشوات مثمنة ومسدسة محفورة، وكتب بأعلى هذه الحشوات "… قلاوون الصالحي سلطان الإسلام والمسلمين قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه انتقل إلى رحمة الله تعالى".

أما جدران القبة من الداخل فقد كسيت بوزرات رخامية ارتفاعها من مستوى أرضية القبة (4.18م) يعلوها شريطان عريضان زخرفيان أحدهما زخارف نباتية والآخر من خط النسخ الكبير البارز المذهب الملون.