كتبه/ علاء بكر
بل لم يَسلم المتقبلون لها مِن الاختلاف حولها، فمن يراها مِن جهة المضمون هي الإسلام، ومن يرى وجوب تقييدها بكونها ذات مرجعية إسلامية لتوافق الإسلام، وهذا الاختلاف يدل على عدم وضوح هذا المصطلح عند الكثيرين، أو وضوحه واختلافهم في تقبله؛ لذا أرى أن الأمر يحتاج مزيد بيان لحقيقة الدولة المدنية والدولة الثيوقراطية، وموقف الإسلام منهما، فأقول:
الدولة الثيوقراطية: هي الدولة الدينية على المفهوم الذي ساد أوروبا لقرون طويلة في ظل هيمنة وسيطرة رجال الكنيسة على مقاليد الأمور؛ وهي دولة تجتمع فيها سلطة الحاكم وسلطة التقنين والتشريع بيد الكنيسة، ممثلة في البابا والقساوسة ومَن يرضون عنه ويقرونه مِن الحكام مِن الأباطرة والقياصرة والملوك والأمراء، ومَن دار في فلكهم مِن الأمراء والنبلاء والإقطاعيين، فالحكم هنا مطلق، والتشريع حق للكنيسة، وللبابا قداسة وعصمة، بتفويض إلهي!
ومن تقره الكنيسة مِن الحكام فله الحكم المطلق أيضًا مؤيد بتوفيق مِن الرب وإلهام، كما كانوا يعتقدون.. !
وعامة الشعب لا يتمتعون بكثير مِن الحريات؛ فهم منقادون مقلدون "رجال الكنيسة"، خاضعون لحكامهم، لا يَسلمون مِن تعدي أصحاب النفوذ عليهم، واستبدادهم بهم.
وهذا هو واقع أوروبا قبل النهضة، كما عاشته ومارسته، وينبغي أن ننتبه إلى أنه خلال هذه الأزمنة مِن استبداد الكنيسة وطغيانها كانت البلاد الإسلامية تعيش في ظل الدولة الإسلامية لا تعرف العصمة والقداسة لحاكميها، ويتمتع سائر المسلمين في بلاد الإسلام بحرية العمل والتجارة والتنقل والتملك، وحرية الفكر والرأي والاعتقاد، في ظل ضوابط الشرع وأحكامه، وقادت الأمة الإسلامية بحضارتها البشرية إلى الرقي والتقدم في ظل التسامح والعدل والأمن والأمان.
ولقد اختلط الأوروبيون واحتكوا بالمسلمين كثيرًا خلال هذه الأزمنة مِن خلال الحروب الصليبية والتبادل التجاري، ومِن خلال تواجد المسلمين في شرق أوروبا، وفي الأندلس "أسبانيا".
ولا شك أنهم رأوا وأدركوا الفارق الكبير بيْن خضوعهم لاستبداد الكنيسة، ومَن ورائها مِن الحكام وبيْن ما عليه المسلمون مِن الحريات والرقي بمقاييس عصرهم، ولا نشك أن هذا كان من دوافع ثورة الأوروبيين بعد ذلك على نظامهم الثيوقراطي.
والعجب كل العجب ممن يأتي محاولاً إسقاط مفاسد ومخازي الدولة الثيوقراطية التي عاشتها أوروبا وحدها دون غيرها على الدولة الإسلامية؛ لكون الدولة الإسلامية دولة دينية! مع الفارق الكبير بين الدولة الدينية الثيوقراطية، ومفهوم الدولة الدينية الإسلامية كما عرفها ومارسها المسلمون عبر تاريخهم الطويل.
الدولة المدنية: جاء ظهور الدولة المدنية في أوروبا كنتيجة للخروج على الدولة الثيوقراطية، والتخلص مِن سيطرة الكنيسة واستبداد الحكام الذين استمدوا سلطانهم مِن الكنيسة؛ فكان الغرض الاستقلال عن هيمنة وتدخل الكنيسة؛ لذا أعلنها الأوروبيون علمانية تفصل الدين عن الدولة صراحة، وحصروا سلطان الكنيسة التي تمثل الدين عندهم داخل جدرانها.
وأعلنها الأوروبيون ديمقراطية ترفض سيطرة الأباطرة والملوك والإقطاعيين وتجعل الحكم فيها لكل فئات الشعب بلا تمييز.
فيحكم الشعب نفسه بنفسه لنفسه، يختار مَن يحكمه، ويكون مصدر السلطات مِن نواب يمثلونه، في سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية، في ظل حق الشعب في التقنين والتشريع بعيدًا عن سلطة الكنيسة؛ أي أنه في الدولة المدنية تجتمع سلطة الحكم وسلطة التشريع في يد الشعب بكل فئاته بلا تمييز.
وقد بلغ الخروج على الكنيسة مداه بانقسام الكنيسة على نفسها لما عارض القس الألماني "مارتن لوثر" ممارسات الكنيسة الكاثوليكية، واصطدم في ذلك ببابا الكاثوليك وسلطانه حتى أنكر عصمته، وأسس طائفة البروتستانت في أوروبا؛ فكانت صورة أخرى مِن صور التحرر التدريجي مِن الاستبداد السائد، فظهرت الاتجاهات الليبرالية "التحررية" الداعية إلى حرية العمل والتجارة والتنقل والتملك، والاعتقاد والعبادة بعيدًا عن تسلط الكنيسة وتعدي الملوك والإقطاعيين.
وتعددت المناهج والاتجاهات المتصارعة إلى حد التناقض في السياسة والاقتصاد والنواحي الاجتماعية والأخلاقية في ظل علمانية تفصل الدين -أي دين- عن الدنيا، وليبرالية تحررية ترى العيش في فوضى فكرية خير مِن قيود الاستبداد.
فتحولت أوروبا إلى حضارة مادية تعادي الدين -أي دين- فتستحل الربا والزنا والخمور والشذوذ الجنسي وتتعصب للأوروبي الأبيض إلى درجة تستعبد بها الشعوب الفقيرة، وتبيد الشعوب الضعيفة لتستولي على أراضيها وخيراتها وثرواتها بلا وخز ضمير أو تأنيب!
وتمارس علمانية ملحدة وديمقراطية طاغية ترى الحق مع ما يعلي شأنها، وترى الباطل مع مَن يتصدى لها، وزاد مِن كبرها أنها حازت السبق في ميادين العالم والمعرفة والتكنولوجيا والإنتاج والتفوق العسكري؛ فجعلتها أدواتها في السيطرة على شعوب العالم أجمع باسم: العولمة، والنظام العالمي الجديد.
الدولة الإسلامية: هي دولة دينية تلتزم بشرع الإسلام ومنهجه، وتتحاكم إلى كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، دولة كانت واقعًا لقرون عبر تاريخ طويل، كانت السلطة الحاكمة فيها للشعب فهو يختار حكامه مِن أفراده ويبايعهم، وينتقي منهم أهل الحل والعقد أصحاب الدراية بالشرع، والخبرة بنواحي الحياة مع الصلاح والاستقامة.
دولة تعرف الشورى وحرية الرأي والتعبير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بضوابطه، ولكن الشعب بسلطاته الحاكمة يخضع لشرع الله، أي أن السلطة التشريعية للشريعة الإسلامية يعمل الجميع بمقتضاها، ولا يسعهم الخروج عنها؛ فهي دولة قانون، وقانونها أحكام الإسلام، والكل أمامها سواء.
يتبين لنا مِن ذلك الفارق الكبير بيْن نظام كل دولة مِن الدول التي ذكرناها:
1- فالدولة الثيوقراطية: دولة دينية سادت أوروبا وحدها في القرون الوسطى الميلادية، انفردت فيها الكنيسة ومَن ارتضتهم مِن الحكام بسلطة الحكم وسلطة التشريع في ظل اعتقاد بعصمة الكنيسة وقدسيتها وتفويض الرب لها.
2- أما الدولة المدنية: فهي دولة سادت أوروبا بعد عصر النهضة، أخذت بالعلمانية وفصل الدين عن الدولة؛ لتتخلص مِن استبداد الكنيسة وأعوانها، دولة ينفرد فيها الشعب بفئاته وطوائفه بسلطة الحكم بالتمثيل والاختيار، وبسلطة التشريع في ظل الاعتقاد بحق الشعب في أن يشرع لنفسه ما يراه صالحًا له ونافعًا.
3- أما الدولة الإسلامية: فهي دولة حكمت المسلمين لقرون طويلة بشرع الله -تعالى-، لا تفصل الدين عن الدولة، دولة سلطة الحكم فيها للشعب، ولكن سلطة التشريع والتقنين فيها للشرع، أي أن الدولة الإسلامية توافق في المضمون الدولة المدنية مِن جهة أن السلطة الحاكمة فيها مِن الشعب، وتخالف الدولة المدنية في أن سلطة التشريع فيها للشرع، لا مِن الشعب، فليس للشعب فيها حق التشريع.
فالدولة الإسلامية تتناقض تمامًا مع الدولة الثيوقراطية؛ إذ تجعل سلطة الحكم مِن الشعب بجميع طوائفه ولا تقصرها على رجال الدين، ومَن ارتضوه مِن الملوك دون غيرهم، وهي تجعل سلطة التشريع لشرع الإسلام، وترفض أن يتحاكم الناس إلى رجال الدين أو غيرهم، وترى التحاكم لغير شرع الله -تعالى- كفر، وخروج عن الدين؛ لكونه تحاكم لطاغوت.
ومعلوم أن الإسلام لا يعرف طبقة رجال الدين كما عرفتها الكنيسة، وإنما هناك علماء في الدين درسوه وفهموه، ونبغوا فيه علمًا وعملاً، وأي فرد يمكنه أن يكون منهم إذا حذا حذوهم، وهؤلاء العلماء تسترشد الأمة بعلمهم، فهم فئة لها دورها الهام في الأمة، قد يكون منهم مَن تختاره الأمة ليكون عضوًا في السلطة الحاكمة، أو أهل الحل والعقد، وقد يكون مواطنًا كغيره يعمل ويجتهد في خدمة دينه ثم أمته بعلمه بعيدًا عن أمور السياسة المباشرة، وهم قبل ذلك وبعده لا قداسة لهم ولا عصمة، وإن نالوا حب الناس وتقديرهم لما هم عليه من العلم والصلاح.
وقد يقول قائل بعد ذلك البيان: هل تستطيع الشريعة الإسلامية أن تفي بكل مطالب الأمم في كل زمان ومكان، وتقوم بشئون العباد مع تطور الحياة في جوانبها المختلفة تطورًا كبيرًا في التاريخ البشري الحديث؟!
والجواب: إن من خصائص الشريعة الإسلامية الهامة أنها منهج للحياة يصلح في كل زمان ومكان وحتى قيام الساعة؛ إذ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين والرسل، وشريعته نسخت ما قبلها مِن الشرائع، فهي الواجب التحاكم إليها إلى قيام الساعة، ولهذا فما ناحية مِن نواحي الحياة إلا وتناولتها الشريعة ببيان الحلال والحرام، والصحيح والفاسد، يدخل في ذلك: العقائد والعبادات، والمعاملات ونظام الأسرة، وشئون الحكم وقضايا الاقتصاد وحياة الفرد الشخصية وعلاقة الأمة بغيرها مِن الأمم في السلم والحرب، وهي في ذلك:
إما أن تعطي الأحكام التفصيلية، وذلك فيما لا يتغير بتغير الزمان والمكان؛ لسموه عن مواطن الخلاف: كالعقائد والعبادات، أو لتعلقه بما لا ينبغي تغيره بالأماكن والأزمان: كالمحرمات مِن النساء والمواريث، والحدود الرادعة على الجرائم مِن كبائر الذنوب.
وإما أن تتضمن القواعد الأساسية والمبادئ الكلية فيما يتغير بتغير الزمان والمكان؛ لتجتهد الأمة في تطبيقها على ما يستجد ويتغير مِن أساليب الحياة وصورها.
ولهذا نجد أكثر أحكام القرآن تشير إلى مقاصد التشريع وقواعده العامة بما يعطي للمجتهدين المجال للفهم والاستنباط، ومِن هذه المقاصد وهذه القواعد للوصول إلى ما يريده الشرع فيها؛ لذا كان مِن سمات المجتمع المسلم الاجتهاد المتواصل في استنباط الأحكام لما يستجد مِن الوقائع والأحوال؛ إما مِن الأحكام التفصيلية في الكتاب والسنة، وإما مِن النظر في القواعد الفقهية والمبادئ الكلية والإلمام بمقاصد الشريعة، وكلها مأخوذة أيضًا مِن الكتاب والسنة، وهذا مصداقًا لقوله -تعالى-: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل:89).
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وأسأل الكريم أن لايحرمك الأجر
]
سلمت يداك ع الطرح الرائع والموضوع القيم
وًدىْ