(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) (آل عمران/ 97).
الأفعال العبادية في الإسلام لها صورة ظاهرية وصورة باطنية وأسرار عرفانية مدهشة، ولا يمكن استثناء الحج الذي هو من الأحكام العبادية والسياسية المهم في الإسلام، وهذه الفريضة لها آثار تنحصر بها فقط وتجعلها متميزة عن سائر الأحكام الإلهية الأخرى.
المسلمون من كل قوم ولون ولسان وعنصر في العالم يجتمعون في مكان واحد، ويرفعون شعاراً موحداً نحو هدف واحد. فالحج بعث مصغر في دنيا الإنسان. الأصول والفروع تتجلّى في الحج من التوحيد والنبوة والمعاد من الصلاة والصوم والجهاد و… ويشتمل أيضاً على أمور أخرى كالخلوة والجلوة والذكر والتفكر والسكوت والعزلة والاجتماع.
فالإنسان والمجتمع المتكامل يرى في الحج ذروة الحب الإلهي. والحج مسرح لعرض القوى المادية والمعنوية للمجتمع الإسلامي وتقييمها.
الحج كالقرآن كل يأخذمنه حسب فهمه ودركه وقوّته، ونظراً لأبعاد الحج العرفانية الواسعة وأسراره وصفاته المتعددة نشير في هذا المقام إلى بعض أسرار هذه الفريضة الإسلامية.
– أهم مسائل الجانب المعنوي للحج:
باطن الحج يشتمل على مراتب ومقامات فمنها لا يصل إليها الا الأوحدي من الخلق ومنها ميسرة لجميع أبناء الأُمّة الإسلامية وفقاً لمراتبهم العلمية والعملية.
– منازل الحج:
المنزل الأوّل: السير من الخلق إلى الحق، القطيعة عن ما سوى الله والوصول إليه ولهذا المنزل مراتب نشير إليها باختصار.
المرتبة الأولى: التوبة
الابتعاد عن شياطين الداخل في وجود الإنسان وطواغيت الخارج والاتجاه نحو الله، فهو ابتعاد عن الصفات الحيوانية نحو الصفات الإنسانية العليا وترك هوى النفس الأمارة بالسوء باتجاه الفضائل الأخلاقية والمراتب المعنوية.
المرتبة الثانية: اليقظة
اليقظة تعني المعرفة بشأن الكعبة والحرم ومنزلتهما، وما وفق له العبد من معرفة القيم الإنسانية باداء ما وجب عليه من أعمال الحج، وعدم ارتكاب ما منع منه، وهذا يعني انّ الله لا يتقبل كل عمل صادر من الإنسان إلا إذا اقترن بالورع والتقوى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة/ 27)، وانّ الإنسان في محضر الخالق المتعال والنبي الأكرم (ص) والأولياء والصالحين، (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة/ 105).
المرتبة الثالثة: التخلية
الوصول إلى هذه المرتبة يستلزم افراغ القلب من كل الصفات السيئة، وحز جذور تلك الصفات المميتة للقلب كالحسد والبخل والكبر والرياء والكذب والتزوير والنفاق و..
المرتبة الرابعة: التحلية
وبعد افراغ القلب من الصفات الدنية يأتي دور تحلية القلب بالخصائص الأخلاقية الحميدة والفضائل الإنسانية العالية كحب الخير والاخلاص والتواضع والسخاوة والصدق والرأفة والزهد و… وفي هذه المرحلة يتحول الحج إلى حج إبراهيمي مقبول ويتجه الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى بقلب إبراهيمي حنيف ويقول: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام/ 79). وبهذا يخلص نيته في سفره المعنوي إلى الله ويبتعد عن الدنيا الدنية ولا يرضى إلّا برضا الله: (إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى) (الليل/ 20).
وتأخذ كل أعماله وأقواله صبغة إلهية لا يفوقها شيء: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) (البقرة/ 138).
المرتبة الخامسة: التجلية
فهذه المرتبة خاصة بالأولياء والأصفياء من عباد الله المخلصين وفي هذا المقام يلف الحاج السالك هالة من النور الإلهي: (وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (الأنعام/ 122)، ويصل الإنسان إلى مقام العبودية بلطف من الله، وفي هذه المرتبة يميّز الإنسان القيم العليا عن أضدادها، والطيبين من الخبثاء والحق من الباطل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) (الأنفال/ 29).
وما ورد عن الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) يختصر كل هذه المنازل المعنوية والروحية للحج حيث قال: "إذا أردت الحج فجرد قلبك لله عزّ وجلّ من قبل عزكم من كل شاغل وحجب كل حاجب، وفوّض أمورك كلها إلى خالقك، وتوكل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلِّم لقضائه وحكمه وقدره، ودع الدنيا والراحة والخلق، واخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوتك وشبابك ومالك، فإن من ادعى رضا الله واعتمد على شيء صيره عليه عدواً ووبالاً، ليعلم انّه ليس له قوة ولا حيلة ولا لأحد الا بعصمة الله تعالى وتوفيقه، واستعدّ استعداد من لا يرجو الرجوع واحسن الصحبة وراع أوقات فرائض الله وسنن نبيه (ص) وما يجب عليكم من الأدب والاحتمال والصبر والشكر والشفقة والسخاء وإيثار الزاد على دوام الأوقات".
– المنزل الثاني:
السير من الحق في الحق: استمرارية العلاقة بالله مع السعي في الطريق إلى توطيد هذه العلاقة لنيل مقام العبودية ويشتمل هذا المنزل على أعمال:
1- الإحرام وهذا يعني الورود إلى منطقة تحرم على الإنسان أموراً توجب عزة الحاج في سيره وسلوكه، وليس المحرومية والمنع، ومع هذه الحرمة يستشعر الحاج بالاستغناء عن كثير من أمور تعلق بها في حياته اليومية، وبالإحرام والابتعاد عن هذا التعلق بالأمور الممنوعة يتصف الإنسان بصفة إلهية الا وهي التشرف بالمحضر الربوبي كما ورد في الحديث: "عبدي اطعني حتى اجعلك مثلي". حال كونه ملّبياً لبيك اللّهمّ لبيك… والتلبية التي هي من الشعائر العظيمة في الحج، يرفع الحاج صوته بها طارداً كل الشياطين من حوله، مطيعاً لأمر مولاه (نبي الرحمة محمد (ص) حيث قال: أتاني جبرئيل فقال لي: انّ الله يأمرك ان تأمر أصحابك ان يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج".
2- الطواف: فهو عمل شابه لما تقوم به الملائكة حول عرش الله: (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ…) (الزمر/ 75). فطواف العباد حول بيت الله كطواف الملائكة حول العرش، وتكرر الطواف لترسيخ المحورية الربانية، وقد جاء في الحديث عن ابن عباس: من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أُمّه".
3- صلاة الطواف: عندما يصل الطائف إلى مقام العبودية يجب عليه الشكر وصلاة الطواف هي الشكر لله ومعراج المؤمن وقربه لله. استمرارية الشكر تتكامل باستلام الحجر وتقبليه عن جابر: "إنّ النبي (ص) استلم الحجر فقبله واستلم الركن اليماني فقبل يده".
والاستلام هو خضوع أمام عزة الله ورضا بتقديره كما ورد في الحديث: "واستلم الحجر رضا بقسمته وخضوعاً لعزته".
4- السعي بين الصفا والمروة: فالسعي عمل يوحى إلينا تلك الذكرى العطرة لشيخ الأنبياء (ع) الذي حاز على مقام العبودية والتسليم من الله تعالى كما ورد في القرآن الكريم: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة/ 131). فالسعي بين الجبلين تجسيد لعمل إمرأة هرولت وسعت رجاءً لرحمة ربها في صحراء الظمأ والغربة سعياً لسقي طفلها، وعندما أخلصت النية لربها تحقق الأمل الذي مظهره ماء زمزم وواقعيته ماء الحياة. وسعي المؤمنين مجاميع وطوائف بين الصفا والمروة بتلك الحالة يبرز عظمة واقتدار المجتمع الإسلامي، ويرهب المشركين. كما ورد في الحديث: "إنما سعى رسول الله (ص) بالبيت وبين الصفا والمروة ليري المشركين قوته".
ويفر الحاج بهرولته من هوى النفس والغرور الكاذب المفتعل ليصل بروحه وباطنه إلى مقام الحضور واللقيا لحضرة الحق: "وهرول هرولة من هواك وتبرياً من جميع حولك وقوتك". وأيضاً: "صفّ روحك وسرك للقاء الله يوم تلقاه بوقوفك على الصفا".
5- التقصير: هو السير من عالم الملكوت إلى عالم الناسوت ومن لذة الروح إلى لذة الجسم ومن الوحدة إلى الكثرة، والتقصير تحليل بعد التحريم: "لولا انّ الشياطين يهجمون على قلوب بني آدم لنظر إلى ملكوت السماوات والأرض".
6- الخروج إلى عرفة: هناك يعترف العبد بذنوبه أمام خالقه "واعترف بالخطايا بعرفات". ويكتسب المعرفة بالمبدأ والمعاد وبتوحيد الله: "وجدد عهدك لله بوحدانيته". ومعرفة ان: "ليس في الدار غيره ديار". وقد جاء في الحديث: "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت انا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له".
فعرفة محطة ينطلق الإنسان فيها من علم اليقين إلى عين اليقين ومن عين اليقين إلى حق اليقين.
7- الخروج إلى المشعر الحرام: فالمشعر عند الله ذو مرتبة ومقربة وقد جاء توصيفه باجلال واحترام في القرآن الكريم: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) (البقرة/ 198).
فالمطلوب في هذاالمكان المقدس وفي أفضل ساعات اليوم (بين الطلوعين) هو ذكر الله فقط فبذكر الله يكتسب الإنسان سبيل العبادة وفي مشعر الحرام يسرى الإيمان من القلب إلى جوارح الإنسان ومشاعره وما نهله الإنسان في عرفات. فذكر الله يرسخ في قلب الإنسان وعينه واذنه ولسانه وجميع جوارحه لتحصل مشاعرنا على حياة جديدة.
8- الخروج إلى منى: عندما نزل جبرئيل على إبراهيم قال له: "تمنى يا إبراهيم" فَسُمي هذا المكان بمنى فهي أرض الأمل والرحمة والفضل والكرامة واستجابة الدعاء وطلب سعادة الدنيا والآخرة ويمكن القول: ان أفضل لذات الحج هي لذة عمل العبد لربه في منى.
9- رمي الجمرات:
العبد الذي يروم الوصول إلى مقام القرب عليه أن يقارع طاغوت الباطن والنفس الأمارة بالسوء والطواغيت من شياطين الجن والإنس، فرمي الجمرات الثلاث هي في الواقع طرد طاغوت النفس والذي يشكّل أكبر خطر على الإنسان: "اعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك". وطرد شياطين الجن (من إبليس واعوانه) وشياطين الإنس (أعداء الدين والقرآن والبشرية).
10- الأضحية: هي سنة لا تقبل إلا من المتقين: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).
فالتضحية قمة الفداء والإيثار في سبيل المحبوب واحياء لذكرى النبي إبراهيم (ع) الذي أقدم على تقديم إسماعيل قرباناً لربه وتلبية لأمر ربه: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (الصافات/ 102-105).
11- التقصير: وهو تعبير عن إزالة ما تبقى من الصفات الدنية واصلاح القلب من الكبر والرياء.
12- طواف النساء: يحل العطر والاستمتاع بالنساء على المحرم بعد الطواف؛ فالستر قد يكون في أهمية السيطرة على الغرائز بعون من الله حتى وان بلغ الإنسان مقام العبودية، فهذا يوسف الصديق (ع) عندما أفلح في الامتحان شكر الله على عونه: (وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (يوسف/ 33).
13- زيارة المدينة:
ومن أهم الأعمال المندوبة بعد اتمام الحج زيارة النبي الأكرم (ص) وتعتبر بعض الأحاديث: انّ الحج بدون الزيارة ناقصة كما جاء في الحديث: "اتموا برسول الله (ص) إذا خرجتم إلى بيت الله الحرام فإن تركه جفاء".
14- طواف الوداع:
فإن آخر النسك الطواف بالبيت كما جاء في الحديث الشريف: "عن ابن عمر يقول: سمعت عمر بمنى يقول: أيها الناس انّ النفر غدا فلا ينصرف أحد حتى يطوف البيت فإن آخر النسك الطواف بالبيت".
– المنزل الثالث:
السير من الحق إلى الخلق: يبدأ هذا المنزل بالرجوع من مكة ومدينة إلى الوطن، فالمسؤولية في هذا المنزل أعظم من المنزلين السابقين فهناك كان على الإنسان بناء نفسه والحفاظ عليها، وفي هذا المنزل الخطير عليه بناء الآخرين وهدايتهم، كما هو المأثور عن رسول الله (ص) شيّبتني سورة هود لمكان قوله: "فاستقم كما امرت ومن معك". لأنّ الله سبحانه وتعالى يأمر باستقامة من مع رسول الله (ص) والحاج بالرجوع إلى وطنه مأمور بهداية من معه من عائلته وأقربائه، وهو يصدع بدور الأنبياء: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ) (الأحزاب/ 39). فهداية الآخرين أمر خطير ابيضت منه لحية رسول الله (ص) فالحاج عليه تعليم الآخرين بكل ما أخذ وتعلم من الحج وترسيخه في قلوب أهل بيته والأقربين فهو أسوة لهم في قوله وعمله وسلوكه، فالهداية الكبرى من الحج هي احياء الإنسان وهدايته: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة/ 32).
فالامام علي (ع) يعتبر الحج امتحاناً صعباً لتطهير الإنسان وتصفيته حينما يقول: "ابتلاءً عظيماً وامتحاناً شديداً واختباراً مبيناً وتمحيصاً بليغاً جعله الله سبباً لرحمته". وجاء أيضاً في الحديث الآخر: "واستقم على شروط حجك ووفاء عهدك الذي عاهدت به مع ربك وأوجبته إلى يوم القيامة
يسلموو الايادي
جزاك الله خيرا
شُكْرَاً لَطرَحُك الْهَادَف وَإِخْتِيارِك الْقَيِّيم
وَجَعَل مَا جَلبتَه فِي مَوَازِيّن حَسنَاك يَومْ ألحسَآب وَرَفَع الْلَّه قَدْرَك
فِي الْدُنَيا وَالْآخرَّة يَ رَب
وَأَجْزَل لَك الْعَطاء وَبَآركْك عَلى مَوضوعَكْ
أسَأل ألله أنْ يُعَطِرَ أيَآمكْ
بِ ألسَعَآدَةَ ألدَآئمَة
:::: ( ) ::::
جزاك الله الطيب