ثلوج القلب
ليل يمتد لمئات السنين يلفه هذا المطر العاجز عن إرواء عطش روحها وتقبع خلف نافذتها تراقب المطر الذي يلمع تحت وهج أضواء الشارع فتبدو السماء كعيون باكية تجرحها مخالب البرد الشتوي وتشاطرها انتظارها لقبلة الدفء الأولى من ثغر شمس غارقة في السبات لقد ملت من وجهها المتشبث بنافذة الانتظار يشارك السماء طقوس اضطراباتها وتقلباتها بين صحو وبرد ومطر وغضب لا ينفذ كيف مرت سنواتها مسرعة ؟وهي ترقد الآن في تابوت الوحدة تسلي نفسها بتعداد مساميره الصدئة لم تكن هذه الحياة التي حلمت بها ولم يكن هذا الوجه لها وتلك الشرنقة التي تلف روحها ليست سوى رداء عنكبوتي يدفنها بين شخير الأب العاجز وأنين الأم المتعبة ومتطلبات زوجات الأخوة وأولادهن وأخواتها اللواتي يلجأن لها بكل كبيرة وصغيرة .
يالهذا الزمن كيف تسربت أيامه وأحلامه من بين أصابعها وخلفتها على شاطئ الأيام دون أن تدركه فتمسك ببعض لحظاته وتسرقها في غفلة منه كم كان هذا البيت يعج بالأجساد والأصوات وكم كان ضيقاً بأهله فيتعاركون أمام كل باب من أبوابه وعلى مائدته وتكثر الشكاوى أمي انظري ما فعل أحمد ،أمي سعاد ضربتني ،أمي خالد أخذ قلمي ،أمي..أمي..أمي وغيرها وغيرها من الدموع والصرخات والاحتجاجات وطبعاً هذه الأم كانت نائبتها الفعلية هي الأخت الكبرى التي كبرت غصباً عنها مع أنها لم تكن تنوي أن تكبر ولكن تم فرض الأمر عليها لأن القدر اختارها لتكون الابنة الكبرى لمصائب الدهر فالأب الذي تعرض لحادث في عمله فتحول لعاجز يتوسد فراشه ودموعه مما دفع الأم للعمل كخادمة لدى إحدى العائلات التي تحب أن تتباهى بوجود خادمة لديها ولكي تنوب عن الأم المتفرغة للزيارات والسهرات فأصبحت الخادمة أماً لأولاد غيرها مقابل المال وتحولت البنت التي كانت صغرى لأم دون أن تدري .
لقد تحول البيت الضيق اليوم إلى منزل واسع وبارد يضم بين جنباته المرض والوحدة هل كبر هذا المنزل بفعل الزمن أم أن الوحدة والصمت هما من زادا من حجم ؟
إنه لا يضج بالحياة إلا عند زيارة إخوتها أو أخواتها مع أولادهم طبعاً حين يجدون متسعاً من الوقت لديهم للسؤال عن نزلاء هذا المنزل الأموات الأحياء ،ما أقسى أن تعيش حزنك بمفردك دون أن يشاطرك أحدهم عبء حمله مع أنك تحمل معه فرحه وحزنه هل تراهم ينتبهون لحزنها ؟أو هل يعتقدون أن لديها حزن أو حلم قد أماته صخب طفولتهم لقد كان أقصى حلمها بالماضي أن ترى نجاحاتهم وتدفعهم للتفوق في دروسهم فكانت الأم والمعلمة والممرضة وغابت عن سطور حياتها أحلامها ونسيت تاريخ ميلادها ولم تعد تحسب السنين التي تمر ولم تنتبه لريشة الزمن التي بدأت تخط الشعر الأبيض على شبابها كانت تطير فرحاً كلما تقدم إخوتها في صفوفهم وتشعر بالفخر لأنها وراء ذاك التفوق وتدرك أن تعبها لن يضيع سدىً ،وحين استيقظت من غفلتها بعد أن زفت كل واحد منهم لحياته الجديدة وبدأت تحسب عمرها وكم وجدته طويلاً بقدر الوحدة التي تحياها الآن .
ورغم ذلك ما زالت مسؤولة عنهم فهم يتذكرونها عند المرض أو عند حاجتهم لها لترعى أولادهم ريثما يعودون من سهراتهم .
كم تتمنى لو أنهم يتذكرونها بهدية بعيد الأم أليست أمهم ؟ ألم تتقمص دور الأم وتتقنه ؟ ألم تضحي بسعادتها وحياتها لأجلهم ؟
ترى هل يقدرون هذه التضحية أم تراهم يرون أن ذلك كان دوراً لزاماً عليها تأديته ما دام القدر اختارها لتكون البنت الكبرى .
يجب أن يعلموا أنها الآن تتمنى لو أنها تزوجت وأنجبت الأولاد ولو أنها أكملت تعليمها مثلهم لكي تشاركهم أحاديثهم بدلاً من ضحكاتهم على بعض مفرداتها الغريبة .
لن تساعد أحد بعد اليوم بأي عمل، ولن تعود أماً لأولادهم كما كانت أماً لهم ،يجب أن ترتاح يكفيها مسؤولية والديها و…………
قطع تفكيرها صوت سعال والدتها فاتجهت صوبها مسرعة بكأس الماء ودواء السعال وبعد أن شربت أمها قالت : لماذا لم تنامي حتى الآن لقد اقترب الصبح ويجب أن ترافقي أختك للطبيب لنطمئن على موعد ولادتها تعرفين زوجها لا يحب أن تذهب بمفردها اخلدي للنوم الله يرضى عليك .
أنهت الأم كلماتها ثم عانقت نومها ثانية بينما عيونها استمرت بالتحديق بالفراغ إنهم لا يرونها إلا ضمن إطار لوحة البنت الجاهزة لتنفيذ كل ما يحتاجونه عند اللزوم دون التفكير بحالها ويبدو لها أنها لا يمكن أن تغادر هذه الصورة إلا عند الموت
المصدر منتديات نهر الحب