وتلـك أمـك يـا فتـاة

وتلـك أمـك يـا فتـاة(2) سـارة – عليها السلام –

جمع وترتيب: أبي مصعب السيوطي

وتلـك أمـك يـا فتـاة (1) آسيـة بنـت مزاحـم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأنتمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).
أما بعد
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإليكـ أخـتـاه …
قال تعالى : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) [البقرة:214]
إليكـ أخـتـاه …
" إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَإِنَّ خُلُقَ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ " [رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]

إليكـ أخـتـاه …

حملتِ الكتابَ وصُنتِ الحجابََ — و قلبُك لله قد وَحّـدا
جمالُ الحجـاب بحَجب الجمالِ — ولولاهُ ضاع الجمالُ سُـدى
حَبـاكِ الإلهُ بأسمـى مقـامٍ — ووصـىّ ثلاثـاً نبيُّ الهـدى
فإنْ كنتِ أمّاً ؛ فبابُ الجِنـانِ — إذا ما رضيتِ فلـن يوصَـدا
وإنْ كنتِ أختاً ؛ فأنتِ الحَنانُ — وأنت الأمانُ .. وأنت الهدى
وإنْ كنتِ بنتـاً ؛ فعصفـورةٌ — نمـدُّ الفـؤادَ لها و اليَـدا
نجوبُ إذا ما ضحكتِ المَدى — فتُحيينَ فينـا مُنىً هُجَّدا
وإنْ كنتِ زوجـاً ؛ فأنت التي — نـزفُّ إليكِ الهوى الأوحدا
وأنتِ الطهارةُ .. أنت السّنا — وأنت الحضـارةُ ؛ والمنتـدى
وأوراقُ وردٍ لشـوك الطريقِ — وألوانُ طيفٍ محـا الأسـودا

إليكـ أخـتـاه …
يا من تعيش وسطَ بحرٍ لجُى تتلاطمُ فيه أمواجُ الكيدِ والمكر، فاتخذت التوكلَ مركباً، واليقينَ شراعاً، وصنائعَ المعروفِ طوقَ نجاة .
إليكـ أخـتـاه …
يا من رسخ فى قلبك أن الصبر على البلاء يهبُ النفوس قوة، ويرفعها على ذواتها، ويطهرها في بوتقة الألم، فيصفو عنصرها ويضيء ، ويهب العقيدة عمقاً وقوة وحيوية، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها .
فأيقنت أن الطريق : إيمان وجهاد .. ومحنة وابتلاء .. وصبر وثبات .. وتوجه إلى اللّه وحده . ثم يجيء النصر .
إليكـ أخـتـاه …
يا من سمت همتها، وعلت أمنيتها، لا بأحلام وردية بل بأسباب واقعية أن تكون نعمَّ البنت والأخت والزوجة والأم، قد أحسنتِ تربيةَ نفسك، ومعاملة أخواتك، واختيار زوجك، وتربية ولدك … طامحة أن تقدمى لأمتك أسرة مثالية قد اشتقنا إليها .
أخـتـاه …
أنا لا أعجبُ من أمرك … من صبرك، من همتك وطموحك، وثقتك بنصر الله ، فـــ :
* تلكـ أمُـك يـا فتـاة *

[2] سـارة – عليها السلام –

* إن مع العسر يسرا :
خرج إبراهيم – عليه السلام – بزوجته سارة من العراق إلى مصر حيث الغربة الموحشة والظلم والاضطهاد على يد ملك جبار ظالم طمع فى سارة – عليها السلام – بعدما علم أنها أوتيت من الحسن شيئاً عظيماً .
وأنحى قلمى جانباً لأدعك تتعايشين مع القصة بلسان أفصح الفصحاء، وأبلغ البلغاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ : « هَاجَرَ [سافر] إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام بِسَارَةَ فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنْ الْمُلُوكِ – أَوْ جَبَّارٌ مِنْ الْجَبَابِرَةِ – فَقِيلَ: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ مَنْ هَذِهِ الَّتِي مَعَكَ ؟ قَالَ: أُخْتِي [فى الإسلام؛ حتى لا يبطش به إن علم حقيقته] .
ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا فَقَالَ: لَا تُكَذِّبِي حَدِيثِي، فَإِنِّي أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّكِ أُخْتِي، وَاللَّهِ إِنْ عَلَى الْأَرْضِ [ليس على الأرض] مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ [فى هذه الأرض: مصر] .
فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ فَقَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّي فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ فَغُطَّ [ضاق نفَسُهُ وكاد يختنق حتى سُمع له غطيط] حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ [ضربها على الأرض من شدة الاختناق] ، قَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ يُقَالُ هِيَ قَتَلَتْهُ .
فَأُرْسِلَ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وتُصَلِّي وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ هَذَا الْكَافِرَ فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ، فقَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ يُقَالُ هِيَ قَتَلَتْهُ .
فَأُرْسِلَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ إِلَّا شَيْطَانًا، أرْجِعُوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَعْطُوهَا آجَرَ [اسم هاجر باللغة السريانية] .
وفى رواية: « فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً، فَقَالَ لَهَا: ادْعِى اللَّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِى وَلاَ أَضُرُّكِ فَفَعَلَتْ .
فَعَادَ فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَةِ الأُولَى، فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَفَعَلَتْ .
فَعَادَ فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ فَقَالَ: ادْعِى اللَّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِى فَلَكِ اللَّهَ أَنْ لاَ أَضُرَّكِ. فَفَعَلَتْ وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ … » .
فَرَجَعَتْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَتْ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ الْكَافِرَ [أذله وأخزاه ورده] وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً [أعطى جارية لتخدمها] » [رواه البخارى ومسلم وأحمد وغيرهم]
أختـاه …
– أمك سارة فى ديار الغربة تتعرض لهذا البلاء العظيم، والكرب الشديد …
– البلاء ليس فى نقابها أو زوجها أو أخيها … بل فى أغلى وأسمى ما تملكه المرأة .
– سارة … لا تملك من مقومات الدفاع المادية شيئاً .
– خصمها هو ملك البلد … فإلى من تشتكيه ؟ فلا مهرب ولا مخلص وإنما الانقياد للظلم وأهله .
– إنها فى أزمة إن لم تنجو منها ستقضى على حياتها … لكنه ابتلاء الله للصالحين …
– وجدت سارة طريقاً للفرار، طريقاً واحداً … أن تفر إلى ملك الملوك … جبارِ السماوات والأرض … فهو سبحانه مع المكروب، والملهوف، والمظلوم، يجيب دعوة المظلوم، والمضطر .
– قامت سارة توضأت ودعت … إلى الركن الشديد أوت … بأعمال صالحة إليه توسلت … توسلت إلى الله بإيمانها وعفتها .
– فتأتى النصرة من السماء لهذه المرأة الضعيفةِ بخِلقَتِها القويةِ بإيمانها، ورد اللهُ القوىَ بسلطانه الضعيفَ بظلمه وجبروته …
– شل اللهُ القوىُ المتينُ يدَ الظالم الغشوم، ولم يستطع أن يحركها، ثم ضاق نفَسُهُ وكاد يختنق حتى سُمع له غطيط كغطيط النائم …راح يضرب برجله على الأرض من شدة الاختناق …
– الجبار المستعلى يتوسل بالمرأة الضعيفة أن تدعو ربها ليُذهبَ عنه ما أصابه على أن لا يمسها بسوء …
– توجهت سارة بالدعاء لغياث المستغيثين … خافت إن مات الظالم يتهموها بقتله فيقتلوها … فاستجاب الله لها وحرر الظالم فتركها هنيهة، ولكن هيهات للفجرة أن يتورعوا عن النيل من الفضيلة والعفة …
– طلبها وتكرر الحالُ مرة واثنتين وفى الثالثة أيقن أنه لا سبيل إلى سارة، فخاف على نفسه وأطلق سراحها وأهدى لها جارية لتخدمها … هذه الجارية هى أمك هاجر التى صارت بعدُ زوجة لنبى الله إبراهيم، وأماً لنبى الله إسماعيل، ومن نسلها كان خير خلق الله محمد
– أختاه … لقد انتهى فصل من فصول الابتلاء بنصرة الحق وخذلان الباطل، فالفرج من عند الله، ومن المحن تأتى المنح، ولا يغلب عسر يسرين، وكلما ضاقت اتسعت فأبشرى وأملى وثقى بربك أنه ناصرك ومؤيدك وساترك، وافعلى كفعل أمك سارة .

* امرأةٌ تتقلبُ فى الابتلاء :
أختاه …
– الأمومة من أعظم الهبات التى خص الله بها المرأة، فهى نظام تعلو فيه مكانة الأم على مكانة الأب .
– الأمومة مطلب طبيعي ينطق به جسد المرأة، وتفصح عنه ميولها النفسية ومشاعرها الدفينة، فهى من أقوى الغرائز لدى المرأة السوية .
– الأمومة تظهر في الطفولة المبكرة حيث تحتضن البنت عروستها وتعتني بها، ولما كانت الأمومة غريزة بمثل هذه القوة، كان الحرمان منها ابتلاء عظيم للمرأة فهي تشعر أنها حرمت من أهم خصائصها كامرأة .
– عادت أمك سارة بصحبتها هاجر مع إبراهيمَ – عليه السلام – من مصر إلى بيت المقدس بفلسطين حيث استقروا …
– تقدم العمر بـ " سارة " ولم تقر عينها وزوجها بولد، وأدركت أنها عاقر لا تنجب، كلما همت بالإقدام لتؤثر زوجها على نفسها أحجمتها الغيرة، ولكن أَنَّى لمثلها أن يسخط على قدر الله وحكمته، إنها المؤمنة التقية النقية الصابرة المحتسبة التى شرحت صدرها لقدر الله العليم الحكيم فى ابتلاءها .
– ووقع الاختيار على هاجر لتكون زوجةَ خليل الرحمن؛ لتقر عينه بالذرية الطيبة التى وعده ربه – جل وعلا – بها، ووافق – عليه السلام – باختيار سارة وتزوج هاجر وتحقق وعدُ الله وجاء إسماعيل – عليه السلام – .
– فى كل فصل من فصول الاختبار والامتحان توقن أمُك سارة أن البداية كربٌ ومرارة، والنهاية فرجٌ وحلاوة حتى لو كان الفرج لا تدركه العقول ولا تتصوره الأذهان .
– نعم – أختاه – صبرت سارة على البلاء … أيقنت أن الله سيجزيها على صبرها … بثواب جزيل … بذكر عظيم … إلى غير ذلك من التصورات التى يمكن للعقل أن يدركها، ولكن هل تصورت أن نتيجتها فى الامتحان ولدٌ ترزق به وهى بنت تسع وتسعين سنة، وزوجها ابن مائة سنة ؟!! .
– إنها صاحبة يقين راسخ كالشم الراسيات لا تؤثر فيه ريح المحن فى قدرة الله المطلقة، ولكنه التعجب من أمر غير متوقع …… هلم أختاه إلى خير الكلام – كتاب الله – ليقص ويحكى هذه الحادثة لأمك سارة وأبيك إبراهيم …
قال الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ : ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) [الذاريات:24-30]

* فـى ظـلال الآيـات :
جاءت الملائكةُ إلى بيت خليل الرحمن فى طريقهم إلى سدوم – قوم لوط -، فحسبهم أولاً أضيافاً فعاملهم معاملة الضيوف، فشوى عجلاً سميناً لهم، ولكنهم لم يقربوه؛ لأن الملائكة ليس فيهم قوة الحاجة إلى الطعام فنكرهم – عليه السلام – لكنهم أخبروه بأنهم فى مهمة إلهية إلى قوم لوط المجرمين المفسدين .
قال تعالى 🙁 وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) [هود: 69-71]
وكانت سارة قائمة على رءوس الأضياف، فضحكت ابتهاجاً بهلاك القوم الملوثين فبشرتها الملائكة بإسحاق – عليه السلام – فبغتت وفوجئت ، فندت منها صيحة الدهش ، وعلى عادة النساء عند التعجب ضربت خديها بكفيها.
فاجأتها البشرى بإسحاق . وهي بشرى مضاعفة بأن سيكون لإسحاق عقب من بعده هو يعقوب. والمرأة – وبخاصة العقيم – يهتز كيانها كله لمثل هذه البشرى ، والمفاجأة بها تهزها وتربكها قالت : ( يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ) تنبئ عن دهشتها لهذه البُشرى وهي عجوز . ومن الأصل عقيم . وقد أخذتها المفاجأة العنيفة التي لم تكن تتوقعها أبداً ، فنسيت أن البشرى تحملها الملائكة !
عندئذ ردها المرسلون إلى الحقيقة الأولى . حقيقة القدرة التي لا يقيدها شيء ، والتي تدبر كل أمر بحكمة وعلم ( قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) فلا شيء بالقياس إلى قدرة اللّه عجيب ( قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) .
فهذه وأمثالها مما يكرمكم به ربُّ العزة، ويخصُكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة فليست بمكان عجيب، فإياكم والتعجب لأن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم .
أختاه … إن التعجب لم يكن من أمك سارة فحسب بل بدا أيضاً من خليل الرحمن إبراهيم ( قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ) [الحجر:54-56]
فكان التعجب منهما والبشارة إليهما بغلام عليم صالحٍ صادق مبارك هو نبى الله إسحاق – عليه السلام – بن إبراهيم . أخو إسماعيل . أمه سارة . جدة يعقوب والد يوسف – عليهم السلام – .
أرأيتِ – أختاه – إنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة .. هذا السؤال من سارة وإبراهيم الموصولين بالله ( أَأَلِدُ ، أَبَشَّرْتُمُونِي ؟! ) ليصور مدى بُعد هذا الثواب عن مخيلتهم، ولكن فرج الله وعونه ومدده يأتى لعباده بفضله الجزيل وكرمه العميم فوق وفوق ما يتصوره عقل المبتلى حتى إذا نفس الكرب وجاء المدد من الرب أصابته نوبة تعجبية سرعان ما تزول بتذكر حكمة الله وقدرته المطلقة .

* فـى وداع سـارة :
ها هى الأيام تمر، والسنون تمضى وبعد أن بلغت سارة من العمر مائة وسبع وعشرون سنة كلها جهاد وابتلاء، وصبر وعناء، وتمكين ورضاء جاء الوقت الموعود لانتقالها إلى الدار الآخرة .
فوداعاً – أماه – فقد آن لك أن تستريحي وتبدئي رحلة جديدة لكن مع نعيم مقيم لا شقاء فيه ولا بلاء .
وداعاً – أماه – يا من سطرت على جبين التاريخ سطوراً من النور، ونشرتِ عبيراً يفوح منه عبق الصبر والعطاء ملئ أرجاء الكون .
وداعاً – أماه – يا شعاع أمل يضئ درب الحائرات اليائسات فى الثقة بنصر الله وتمكينه .
– أماه – لن ننساك ما بقى القرآن يتلى، وسنة رسول الله تقرأ وتحفظ لأن ذكرَك قد حفظ فيهما .
فرحمة الله وبركاته عليكِ

* مـن وحـى القصـة :
1- مشروعية أخوة الإسلام، قال تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) وأن أخوة الدين رابطة عظيمة أقوى من أخوة النسب .
2- الرخصة في الانقياد للظالم والغاصب، فيمكن أن يقال: لماذا لم تقاوم ؟ قد تقاوم وتقتل وتذل وتهان، وهنا رخصة في أن المرأة إذا أجبرت بالقوة على الانقياد إلى ظالم، فإنها إذا لم تجد طريقة للهرب ولا للتخلص، وقِيْدت بالقوة، فإنها تكون معذورة بهذا .
3- جواز قبول هدية المشرك؛ فإنه لما أعطاها هاجر قَبِلَت الهدية وأقرها إبراهيم، وهو نبي يأتيه الوحي، فأُخِذَت هدية المشرك .
4- إجابة الدعاء بإخلاص النية؛ فإنها دعت الله تعالى، ففرج الله عنها، والله تعالى يجيب دعوة المظلوم والمضطر، ولا شك أن سارة في ذلك الموقف كانت في اضطرار عظيم، فلما دعت الله وقالت: " اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك " فكانت صادقة مؤمنة فاستجاب الله دعاءها.
5- مشروعية التوسل بالأعمال الصالحة، فإنها قالت: " اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر " فتوسلت إلى الله تعالى بالإيمان وبالعفة، فالله سبحانه وتعالى يقبل الدعاء بالأعمال الصالحة، وأنه عز وجل يستجيب .
6- ابتلاء الصالحين لرفع درجاتهم والتمكين لهم، وإجزال المثوبة من الله إليهم .
7- أن الإنسان إذا نابه كرب أو وقع في شدة فإن عليه أن يفزع إلى الصلاة؛ فإن إبراهيم الخليل لما أُخِذت منه زوجته توجه إلى الله تعالى وقام يصلي .
وهكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر صلى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) .
8- مشروعية الوضوء للأمم السابقة، وليس خاصاً بهذه الأمة ولا بالأنبياء؛ لأن ذلك ثبت عن سارة أنها قامت تتوضأ .
9- على الإنسان أن يكون حكيماً يحسب للأمر حسابه، فهذا إبراهيم يقول لزوجته: " إذا سألك فأخبريه أنك أختي " حتى لا أكون كذاباً عنده، ولا تتناقض الأقوال .
10- تواضع سارة لما قالت: " أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ الْكَافِرَ وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً " ما قالت : بصلاحي . بدعائي ! بل قالت : " اللَّهَ كَبَتَ الْكَافِرَ " .
11- التورية مخرج من الكذب كما فعل خليل الرحمن، والتورية: أن تأتي بكلام له معنيان؛ معنى قريب، ومعنى بعيد، فالسامع يتوهم أنك تقصد المعنى القريب، وفي الحقيقة أنك تقصد المعنى البعيد، هذه قضية المعاريض .
وللبخارى – رحمه الله – باب فى صحيحه/ كتاب الأدب/ بَاب الْمَعَارِيضُ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ، ثم أردف ذلك بمثال: وَقَالَ إِسْحَاقُ سَمِعْتُ أَنَسًا: مَاتَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ: كَيْفَ الْغُلَامُ ؟ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: هَدَأَ نَفَسُهُ وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَرَاحَ . وَظَنَّ أَنَّهَا صَادِقَةٌ .
وهذه المعاريض لا تجوز مطلقاً في ظلم الناس، أو إسقاط حقوق الخلق أبداً، وحذر أهل العلم من استخدام التورية لبيان المهارة وخداع الناس، فهذا مزلق شيطاني، قد يوقع صاحبه في الكذب .

وقبل الرحيل … أختاه

صَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ

نسـاءٌ غيرَ أنَّ لهنَّ نفسـاً الحجـابَ — إذا همّتْ تسهلتِ الصعـابُ
فإن تلقَى البحارَ تكنْ سفينا— وإن تردِ السما فهي الشِّهابُ
ضعـافٌ غيرَ أنَّ لهنَّ رأياً — يسددهُ إلى القصدِ الصـوابُ
وما مـن شيمةٍ إلا وفيهـا — لهـنَّ يـدٌ محامدها خضابُ

اسأل الله العظيم

أن يرزقكي الفردوس الأعلى من الجنان.
وأن يثيبكي البارئ على ما طرحت خير الثواب .

في انتظار جديدك المميز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Scroll to Top