تتحدى الزمن

لم يصدق أذنيه حين أخبره أحد الأصدقاء أنها عادت

عادت بعد سفر دام سنوات، وان كانت لم تغب عنه لحظة واحدة خلال تلك السنوات، لم ينس أبدا يوم سفرها. كانت لم تبلغ العشرين بعد، ومثلها كان هو، ذهب مع أسرته ليودعها وأسرتها، كادت الدموع تفضح العيون الصغيرة

مازال يذكرلحظة أن مدت له يدها بكتاب تطلب منه أن يوصله لأحدى الصديقات، اسم لم يكن له وجود أبدا، واحتضن الكتاب، واحتضن ما بداخل الكتاب، كانت صورتها ومعها كلمات صافية كابتسامتها، صادقة كنظرتها، وكانت هذه الصورة مع صورتها التى انطبقت عليها عيناه حين ودعها هى كل حياته

وتمضى السنين دون أن تضيف الى أى من الصورتين رتوشا، وتبقى ابتسامتها ونظرتها متحدية الزمن، وتبقى كلماتها فى أذنيه كلمات طفلة وجدت الحب أحلى من كل قطع الحلوى فى العالم، طفلة تركت عروستها حين أحست أنها ستكون هى نفسها عروسة. وفى كل تلك السنوات لم ينس لعبهما معا، ولا يوم أن أمسك يدها أثناء اللعب ففوجئ بها تسحبها بسرعة، وحين نظر اليها متسائلا أجابته باحمرار وجنتيها التى حاولت أن تخفيه وفشلت. بعدها كانت ترفض أن تصحبه الى مباريات الكرة كما كانت تفعل من قبل، لكنها لم ترفض يوما أن يصحبها لمشاهدة أحد الأفلام

كانا كالزهرتين يكبران معا، يتفتحان معا، وينضجان معا. لا….. بل لم ينضجا معا، افترقا وهما مازالا فى طور التفتح، ولا يذكرها الا برعما يتفتح للحياة، بل ولا يرى نفسه الا كذلك، يرفض الاعتراف بمرور السنين، كأنما أراد أن يوقف الزمن حتى يلتقيا فى نفس اللحظة التى افترقا فيها

وظن أن الزمن استجاب له، أيقظه من سباته، وعاد باحساسه لما قبل العشرين، وذهب ليقابل فتاته التى لم تتجاوز العشرين. استقبلته سيدة فى أنضج سنوات عمرها، نظرت اليه وابتسمت، كانت نظرتها لاهثة، كأنما تعبت من طول ما رأت، وكانت ابتسامتها مرسومة كأنما وضعتها بيدها وضعا. مدت اليه يدها، لم يحس بها كرفرفات فراشة بين يديه كما أحس يوم سفرها، لم يقفز قلبه اليها مثلما قفز ورفض العودة يوم سفرها، لم تتعلق أنفاسه بهمساتها وكلماتها مثلما تعلقت يوم سفرها. لقد سافرت حقا، سافرت، لكنها لم تعد